قال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة، الآية: 183]
أختي الكريمة
إن مواسم الطاعات عند المسلمين تتوالى على مدار العام رحمةً من الله بعباده فكونوا حريصين على استغلال موسمهِ خير استغلال ..
فإما شاهد لكم أو عليكم
* قال ابن الجوزي رحمه الله : شهر رمضان ليس مثله في سائر الشهور، ولا فضلت به أمة غير هذه الأمة في سائر الدهور ، الذنب فيه مغفور والسعي فيه مشكور ، والمؤمن فيه محبور والشيطان مبعد مثبور ، والوزر والإثم فيه مهجور وقلب المؤمن بذكر الله معمور ، وقد أناخ بفنائكم هو عن قليل راحل عنكم ، شاهد لكم أو عليكم ، مؤذن بشقاوة أو سعادة أو نقصان أو زيادة وهو ضعيف مسؤول من عند رب لا يحول ولا يزول يخبر عن المحروم منكم والمقبول فالله الله أكرموا نهاره بتحقيق الصيام واقطعوا ليله بطول البكاء والقيام ، فلعلكم أن تفوزوا بدار الخلد والسلام مع النظر إلى وجه ذي الجلال والإكرام ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم. أهـ
فينبغي للمسلم أن لا يفرط في مواسم الطاعات وأن يكون من السابقين إليها ومن المتنافسين فيها.. قال تعالى [
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } المطففين 26
فاحرص أخي الكريم..أختي الكريمة
على استقبال رمضان بالتنافس فيه من خلال الأعمال والأمور التالية :
* بعقد العزم الصادق بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى والهمة العالية على تعمير رمضان بالأعمال الصالحة فمن صَدَقَ الله صدقه وأعانه على الطاعة ويسر له سبل الخير .. قال تعالى { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى }طه 82
* باستحضار أن رمضان ما هو إلا أيام معدودات سرعان ما ينقضي ولعله يكون آخر رمضان تدركه ، فاستزد فيه من الخير .. قال صلى الله عليه وسلم : « واجعل الحياة زيادة لي في كل خير» رواه مسلم.
* باغتنام هذه الفرصة لتزكية نفسك وتطهيرها وتعويدها على الطاعة وتذكر { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } سورة الرعد 11
* باستشعار رقابة الله جل وعلا والتفكير في معاني أسمائه الحسنى {البصير - الشهيد - المحيط - الرقيب - السميع} في صيامك وقيامك وحفظ لسانك وسمعك وبصرك وجميع جوارحك لما يحب الله ويرضى قال تعالى { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ق 18
* بإكثارك من ذكر الله عز وجل .. قال صلى الله عليه وسلم « لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله » رواه أحمد، وتلاوة كتابه
الكريم بتدبر وخشوع وأنه سيكون لك شفيعا يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم : « اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه » رواه مسلمقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة وأرتلها وأتدبرها أحب إلي من أن اقرأ القرآن كله . أهـ
وكان الإمام مالك أذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف
* بتحري الدعاء في الأوقات الفاضلة :
1- عند الإفطار .. قال صلى الله عليه وسلم « ثلاث لاترد دعوتهم : الصائم حتى يفطر..» رواه الترمذي وابن ماجه
2- بين الأذان والإقامة .. قال صلى الله عليه وسلم « لايرد الدعاء بين الأذان والإقامة» رواه الترمذي
3- الثلث الأخير من الليل .. قال صلى الله عليه وسلم « ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأعفر له» رواه البخاري ومسلم
* بنفقتك على أهلك صدقات تدخر لك.. قال صلى الله عليه وسلم : « الثلث والثلث كثير إن صدقتك من مالك صدقة وإن نفقتك على عيالك صدقة وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة وإنك أن تدع أهلك بخير خير من أن تدعهم يتكففون الناس» رواه مسلم
* باجتهادك في العشر الأواخر من رمضان ففيها الخير العظيم ( ليلة القدر)
بقيامها إيمانا واحتسابا مغفرة لما تقدم من ذنوبك ، وحرصك على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم وتأسيا به في سنة الاعتكاف والمحافظة عليها قال صلى الله عليه وسلم « من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه » رواه النسائي عن أبي هريرة
* بالمسارعة في تصحيح مسيرك إلى الله تعالى وتحمل الصعاب والمشاق والصبر على ذلك ومن ثم تصحيح سلوكك وخلقك مع الناس ( أهلك وأرحامك وأصحابك وجيرانك وغيرهم ) وسلامة صدرك نحوهم .. قال صلى الله عليه وسلم « أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» رواه الترمذي
* ويل لمن لم يغفر له.. قال صلى الله عليه وسلم : « أتاني جبريل فقال يامحمد من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل أمين فقلت أمين» رواه الطبراني عن جابر بن سمرة
* تذكر أن الغاية من حياتك هي عبادتك لله عز وجل ، فاجتهادك في رمضان جزء من اجتهادك في حياتك كلها فَتحفظ بذلك وقتك وأيام عمرك وتنطلق نحو التغيير والإصلاح والمسابقة والمسارعة لكل مايحبه الله ويرضاه قال صلى الله عليه وسلم « اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل مماتك وشبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك» رواه الحاكم
* كن معهم قال تعالى { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }آل عمران 133
الضّيف الحبيب
د. عبدالعزيز الفوزان
يحلّ علينا بساحتنا ضيف حبيب، طالما انتظرته القلوب المؤمنة، وتشوّقت لبلوغه النفوس الزاكية، وتأهّبت له الهمم
العالية. ضيف يشرفنا مرة في كل عام، ضيف قد رفع الله شأنه، وأعلى مكانه، وخصه بمزيد من الفضل والكرامة، وجعله
موسماً عظيماً لفعل الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات: (...وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)،
ضيف تواترت النصوص والأخبار بفضله، منوهةً بجلالة مكانته وقدره، ومعلنة عن محبة الله تعالى له وتعظيمه لشأنه.
ضيف قد يكلفك اليسير، ولكنه يجلب لك الخير الكثير والثواب الجزيل والأجر الكبير، إن أنت عرفت قدره، وأحسنت استقباله وأكرمت وفادته، واستثمرته فيما يقربك إلى الله ويرفع درجاتك عنده.
إنه شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، إنه سيد الشهور وأفضلها على الدوام، إنه
شهر القرآن والصيام والقيام، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً وفضيلة، شهر تُفتح فيه أبواب الجنان،
وتُغلق فيه أبواب النيران، وتُصفّد فيه الشياطين ومردة الجان.
شهر المغفرة والرحمة والعتق من النار، شهر الصبر والمواساة، شهر التكافل والتراحم، شهر التناصر والتعاون
والمساواة، شهر الفتوحات والانتصارات، شهر تُرفع فيه الدرجات، وتُضاعف فيه الحسنات، وتُكفّر فيه السيئات، شهر فيه
ليلة واحدة هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فهو المحروم.
فهنيئاً لكم أيها المسلمون برمضان، والسعد كل السعد لكم بشهر الصيام والقيام، ويا بشرى لمن تعرض فيه لنفحات الله،
وجاهد نفسه في طاعة الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا…)[العنكبوت: من الآية69].
ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر المبارك، ويبين لهم فضائله، حتى يتهيؤوا له ويغتنموه.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه، يقول: "قد جاءكم شهر
رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، فيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه مردة
الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم" رواه الإمام أحمد والنسائي والبيهقي، وحسنه الألباني.
قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان. قال ابن رجب – رحمه الله-: "وكيف لا
يُبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يُبشّر المذنب بغلق أبواب النيران؟ وكيف لا يُبشّر العاقل، بوقت يُغلّ فيه
الشيطان، ومن أين يشبه هذا الزمان زمان؟
وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان، فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب
النار، وصُفّدت الشياطين" وزاد في رواية للترمذي وابن ماجه وغيرهما "وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".
فدلت هذه الأحاديث على بعض خصائص هذا الشهر وفضائله ومنها:
أنه تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، وذلك لكثرة ما يُعمل فيه من الخير والأعمال الصالحة التي هي سبب
لدخول الجنة، ولقلة ما يقع فيه من المعاصي والمنكرات التي هي سبب لدخول النار، وتُفتح أبواب الجنة أيضاً ترغيباً
للعاملين في استباق الخيرات، والمسابقة إلى الباقيات الصالحات، فهذا أوان الجد والاجتهاد، وهذا هو وقت العمل والجهاد.
وتُغلق أبواب الجحيم، ترغيباً للعاصين المعرضين بالتوبة والإنابة، وإتباع السيئات بالحسنات، التي تزيل آثار الذنوب من
القلوب، وتمحوها من ديوان الحفظة، فإن الحسنات يذهبن السيئات، والخير يرفع الشر، والنور يزيل الظلمة، والمرض يُعالج بضده.
ومن خصائصه أنه تُصفّد فيه الشياطين، أي تُغلّ وتوثق، وتُقيّد بالسلاسل والأصفاد، فلا يصلون فيه إلى ما يصلون إليه في
غيره. ولا يتمكنون من إغواء عباد الله كما يتمكنون منهم في غيره.
ولهذا ما إن يطل رمضان بطلعته البهية، حتى يظلل المجتمع الإسلامي كله جو من الطهارة والنظافة، والخشية والإيمان،
والإقبال على الخير وحسن الأعمال، وعم انتشار الفضائل والحسنات، وكسدت سوق المنكرات، وأخذ الخجل يعتري أهلها
من اقترافها، أو على الأقل من المجاهرة بها وإعلانها.
وهذه رحمة من الله بعباده، ولطف عظيم بهم، حيث أعانهم على أنفسهم، وحماهم من كيد مردة الجن والشياطين.
على أن هناك نفوساً شريرة قد تأصل فيها الشر، وتشرّبت الباطل، واستمرأت الفساد، وأسلمت للشيطان القياد، فأبعدها عن
كل خير، وحرمها من كل فضيلة وبرّ، وساقها إلى كل رذيلة وشر. فلا تعرف لهذا الشهر حرمة، ولا تقدر له مكانته وفضله،
ولا تعظم شعائر الله، ولا ترجو لله وقاراً!!
بل وصل الحال ببعضهم إلى أن يكون أسبق من الشيطان في الشر والإفساد. كما قال قائلهم:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال، حتى صار إبليس من جندي
وقد سمعنا عن أناس لا يبالون بالفطر في رمضان، ولا يتورّعون فيه عن فعل المنكرات والقبائح، بل لربما اجتمع بعض
هؤلاء الممسوخين، المطموس على قلوبهم ليالي العشر الأخيرة من رمضان، والتي هي أفضل ليالي الدهر، وفيها ليلة خير
من ألف شهر، فيسهرون على شرب الخمر واستماع الغناء، وارتكاب
الفواحش والزنا، نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ به من عمى البصيرة ورين القلوب. وقد صدق القائل:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وأصحاب هذه الحال، أنواع شتى:
1ـ فمنهم المحارب لله ورسوله، الذي جند نفسه للصد عن سبيل الله، والاستهزاء بآياته، والاستهتار بشعائره وحرماته،
والسخرية بالصائمين والصائمات، ووصفهم بالتخلف والرجعية، والتحجر والظلامية. هكذا يزعمون، وبمثل هذا الباطل
يتفوهون: (...كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)[الكهف: من الآية5]، والحقيقة أنهم هم الجهلة الضالون، والمتخلفون الرجعيون، والمحرومون المخذولون.
2ـ ومنهم المنافق ذو الوجهين، الذي يتظاهر بالصلاح والالتزام، ويخادع
الناس بمعسول الكلام، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها غير هيّاب ولا وجل، وبلا خوف ولا حياء من الله عز وجل
( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:9-10].
3ـ ومنهم المعرض عن شرع الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، بل هو مشغول
بدنياه عن آخرته، ينفق أوقاته في اللهاث وراء حطام هذه الدنيا وجمع متاعها الزائل، ويرتع كما ترتع البهائم، ويأكل كما تأكل الأنعام، كأنه مخلوق عبثاً، أو متروك سدى.
4ـ ومنهم الماجن الفاسق الذي قطع أنفاسه بالمجون والفجور، واللهو والفساد، فأصبح لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.
وفي هؤلاء وأمثالهم، يقول الحق تبارك وتعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3] ويقول
تعالى: (...وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)[محمد:
من الآية12] ، ويقول تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعـات:37-39].